عَنِ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالاَ: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ «وَهْوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا». قَالَتْ: وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَبْرَزُوا قَبْرَهُ، غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، رواه البخاري ومسلم.
يقول ابن حجر: قوله -لما نزل كذا- بفتحتين والفاعل محذوف أي الموت، ولغيره بضم النون وكسر الزاي، وطفق أي جعل، والخميصة كساء له أعلام. قوله «فقال وهو كذلك» أي في تلك الحال، ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي ذكرت فيه أم سلمة وأم حبيبة أمر الكنيسة التي رأتاها بأرض الحبشة، وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يُعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم، وقوله -اتخذوا- جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل ما سبب لعنهم، فأجيب بقوله: -اتخذوا- وقوله -يحذر ما صنعوا- جملة أخرى مستأنفه من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت فأجيب بذلك.
وقد إستشكل ذكر النصارى فيه، لأن اليهود لهم أنبياء بخلاف النصارى، فليس بين عيسى وبين نبينا صلى الله عليه وسلم نبي غيره، وليس له قبر! والجواب: أنه كان فيهم أنبياء أيضا لكنهم غير مرسلين، كالحواريين ومريم في قول، أو الجمع في قوله (أنبيائهم) بإزاء المجموع من اليهود والنصارى، والمراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده قوله في رواية مسلم من طريق جندب: «كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد»، ولهذا لما أفرد النصارى في الحديث الذي قبله قال: إذا مات فيهم الرجل الصالح، ولما أفرد اليهود في الحديث الذي بعده قال: قبور أنبيائهم، أو المراد بالإتخاذ أعم من أن يكون إبتداعا أو أتباعا، فاليهود إبتدعت والنصارى إتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود -فتح الباري 1/522.
وقال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اِتِّخَاذ قَبْره وَقَبْر غَيْره مَسْجِدًا خَوْفًا مِنْ الْمُبَالَغَة فِي تَعْظِيمه وَالِافْتِتَان بِهِ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْكُفْر كَمَا جَرَى لِكَثِيرٍ مِنْ الْأُمَم الْخَالِيَة، وَلَمَّا اِحْتَاجَتْ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَالتَّابِعُونَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَامْتَدَّتْ الزِّيَادَة إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوت أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، وَمِنْهَا حُجْرَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مَدْفِن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بَنَوْا عَلَى الْقَبْر حِيطَانًا مُرْتَفِعَة مُسْتَدِيرَة حَوْله لِئَلَّا يَظْهَر فِي الْمَسْجِد، فَيُصَلِّي إِلَيْهِ الْعَوَامّ وَيُؤَدِّي الْمَحْذُور، ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ الْقَبْر الشَّمَالِيَّيْنِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى اِلْتَقَيَا، حَتَّى لَا يَتَمَكَّن أَحَد مِنْ اِسْتِقْبَال الْقَبْر، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيث: «لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْره، غَيْر أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا» وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ -شرح مسلم 2/292.
المصدر: موقع دعوة الأنبياء.